لا أعرف أشلائي، ولا أحد يعرف أشلاءه | شعر

قطّة بين أنقاض القصف الإسرائيليّ في غزّة، 25/11/2023 | أشرف عمرة (Getty).

 

(1)

أجلس أمام الشاشة وأفكّر مثل مستشفًى تعرّض للقصف.

ثمّة مَنْ يحفر

يحفر... ويحفر داخلي ليجد القبر الأخير.

أين يوجد القبر النهائيّ لكلّ ما يحدث.

شهداءُ في أكياسٍ بلاستيكيّةٍ زرقاء

يتدفّقون كالنهر في مقبرةٍ جماعيّة.

وموت... موتٌ لم يسبق لأحدٍ أن اختبره

لا طبيب، لا جَنّاز، لا عامل مشرحة.

موتٌ لا يشبه الموت.

أكثر ممّا يحتمل الموتى.

أكثر ممّا يحتمل الموت نفسه.

عائلاتٌ لم يَنْجُ حتّى فمٌ واحدٌ منها ليقول

كنّا هناك.

نسوةٌ حبالى بأطفالٍ لن يولدوا أبدا.

أرحامٌ مشرعة

 لمَنْ يريدون العودة

قُصِفَتْ.

خيولٌ... أشلاء خيول،

طيورٌ... أشلاء طيور،

قططٌ... أشلاء قطط،

وعرباتٌ تجرّها الحمير

- ما نجا منها -

نحو الجنوب

لن تصل.

ومسعفون يهرعون إلى بيوتٍ

ماتت منذ أسبوع

لم يسمع بها أحد.

 

 

(2)

آه يا غزّة، 

يا هيروشيما

الّتي تلمع كحيوانٍ مسلوخ

على عتبة الماضي،

يا قرطاجة

المنتهكَة على البحر،

يا طروادة المحاصرة

بالأحصنة الخائنة،

يا سراييفو...

يا تفّاحة الدم،

لا تذهبي إلى الجنوب

فهناك يذبحون النخيل

على المعابر،

لا تذهبي إلى الشمال

فهناك أشلاءٌ بعدد رموش أطفالك.

لا تذهبي إلى الشرق

فهناك دمٌ على الأسوار

يسيل منذ العهود القديمة.

لا تذهبي إلى الغرب

فهناك أعدّوا لك المشانق

والصحراء.

 

 

(3)

أنا القتيل الّذي لن يُعْثَرَ عليه،

أنا الأمّ الممدّدة في روائح البرتقال الدامي،

أنا يدٌ عالقةٌ على شجر الفوسفور،

أنا الطفل الّذي كتبوا اسمه في راحة يده،

أنا الصبيّة الّتي ستجدون جدائلها في الركام،

أنا السياج الّذي يعضّ أنفاس اللاجئين،

أنا قذيفةٌ تسكن الكتب والصور العائليّة،

أنا المطر الأصفر على المآذن،

أنا الموعد الأوّل لعاشقَيْن لن يلتقيا أبدًا،

 أنا شهيدٌ مرّتين،

أنا كلمةٌ لن يقولها أحد،

أنا النشيد الوطنيّ لشعب الرمل والبحار المعطّلة،

 أنا جثّةٌ مصلوبةٌ تأكل مِنْ رأسي الطير... والطائرات،

 أنا ما لن يحدث ولن يُرى ولن يكون بعد الآن،

 أنا غابة العناق في مقبرة،

أنا قنديل الغبار البارد في مستشفًى،

 أنا المدينة الّتي تنتظر البرابرة،

 أنا أمّةٌ مِنْ نوافذُ تنزف على التلفاز،

 أنا قربانٌ طائشٌ في سلالة الموت،

 أنا متحف الدم... والفجيعة،

أنا تمثالٌ مشوّهٌ تنحتني يد الحرب،

........................................ أنا الحرب!

 

 

(4)

 الحرب،

سلّمٌ يستند إلى جدارٍ آيلٍ، جثثٌ سائلةٌ، أوراق لعبٍ مبعثرةٌ،

الشيطان يربح، الشيطان يخسر

لا فرق، سيسقط الجميع

وهناك في البعيد

ستتوهّج أكثر تلك النجوم المثخنة بالله،

الله الّذي يعرف جيّدًا ماذا يمكن للحرب أن تصنع في خيمة إسكافيٍّ

 أو دمية طفلٍ، أو روتين فراشة.

لكن مع ذلك فالحرب تقع

 

ضدّ القوانين 

ضدّ الغباء والعبقريّة

ضدّ الوردة والسياج

 

ثمّ إنّها تخيط مِنَ الألم أحذيةً مهترئةً ليصلحها الإسكافيّ

ومِنَ الدم دمىً لتؤنس خواء الطفل،

ومِنَ الهشاشة أجنحةً تحلّق بها الفراشة إلى منتهى الرماد

 

 

(5)

القتلى خلف الباب

البرابرة في البيت

يرتّبون الذكريات وفق تقويمهم

والملابس وفق روائحهم

والضوء وفق قناديلهم الجديدة،

 

ثمّة نافذةٌ تطلّ على مساحة الهواء الغريب،

 

لا أرى مِنْ ثقب القلب شمسًا كاملةً

ولا عصافيرَ تلوّن شجر الدم!

 

 

(6)

هنالك أغنيةٌ سنغنّيها

لمَنْ أطلقوا في المهبّ فراشاتهم

ومضوا غير مكترثين،

لمَنْ لم يعودوا مِنَ العتمة المطلقة،

ومَنْ آثروا أن يردّوا الرياح

 بأجسادهم عن نحول القرنفل 

في مناماتنا،

لمَنْ صهروا الشمس

في أوعيةٍ

وأراقوا السهول على القفر،

كأنّ أضلعهم

جنّةٌ

تتنزّه فيها البلاد!

 


 

عمر زيادة

 

 

شاعر ومترجم. حاصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في اللغويّات التطبيقيّة والترجمة من «جامعة النجاح الوطنيّة». عمل مترجمًا في «اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّ». له مجموعة شعريّة بعنوان «كلاب عمياء في نزهة» (الأهليّة، 2017).